عزلة رقمية في زمن الاتصال: حين تتحول السوشيال ميديا إلى سجن بلا قضبان

 في عالم غارقٍ في الإشعارات والضجيج الرقمي، حيث لا ينفك أحدنا عن لمس هاتفه كل دقائق، يبدو أننا نعيش في ذروة “الاتصال”. ومع ذلك، لم يكن الإنسان يومًا أكثر وحدة. المفارقة المؤلمة أن ما يُفترض أن يقرّبنا من بعض، بات يُبعدنا عن أنفسنا. نشاهد، نُعلّق، نُعجب، نُشارك، لكننا لا نتواصل بحق. نظن أن في العالم الافتراضي حياة بديلة، بينما هو في كثير من الأحيان مجرد عزلة مقنّعة بابتسامات مُفلترة وضوء أزرق بارد.


في محاضرته المؤثرة، يتحدث الطبيب النفسي تيري كيوبيرس عن آثار العزلة القسرية على الدماغ. كيف يمكن لفقدان التواصل الإنساني أن يُحدث تغيّرات عميقة في كيمياء العقل، في الإدراك، وفي القدرة على التمييز بين الواقع والوهم. الاكتئاب، القلق، اضطرابات الذاكرة، كلها نتائج محتملة لعزلة مطوّلة. وما يثير القلق هو أن هذه الأعراض لم تعد حكرًا على زنازين السجون أو المرضى النفسيين، بل أصبحت حاضرة في تفاصيل يومية يعيشها مستخدمو السوشيال ميديا حول العالم. كلما زادت ساعات التصفح، تراجعت القدرة على التركيز، تقلصت الروابط الحقيقية، وتعاظم الشعور بالفراغ.


نحن لا نعاني من نقص التواصل، بل من زيفه. نستهلك وجوه الآخرين دون أن نعرف وجوهنا. نتابع حكايات مصنوعة بعناية، ونغفل عن سرد حكايتنا نحن. ومع الوقت، يتحول الهاتف إلى مرآة لا تعكسنا، بل تشوهنا. نبحث فيه عن التقدير، عن الحب، عن الانتماء، فنخرج بأكثر مما دخلنا: قلق، مقارنات مؤلمة، وإحساس داخلي بأننا لا نكفي.


لكن هذه العزلة ليست وليدة الأفراد فقط، بل تُغذى بشكلٍ ما عبر غياب السياسات الحامية من طرف الحكومات. فبينما تتسابق الدول لتوسيع البنية الرقمية، وتسهيل الوصول إلى الإنترنت، تغيب غالبًا حملات التوعية، ويغيب الاستثمار في المساحات المجتمعية التي تمنح الإنسان بدائل حقيقية. لا قوانين فعالة تحمي المستخدمين من الإدمان الخوارزمي، ولا برامج نفسية مرافقة للأطفال والمراهقين في رحلتهم الرقمية. الأخطر من ذلك، أن بعض الأنظمة تستخدم السوشيال ميديا كأداة لإلهاء الجماهير، أو لرصدهم، أو لصناعة وعي مشوّه يخدم بقاء السيطرة، لا بقاء التوازن.


في هذا السياق، تتحوّل العزلة من تجربة فردية إلى ظاهرة اجتماعية تُغذّيها التكنولوجيا وتُغفلها السياسات. إذ ما الذي يدفع شابًا أن يُفضّل العيش في عالم رقمي مُخادع، إن لم يكن الواقع قد ضاق، والدولة قد غابت، والمجتمع قد صمت؟ وما الذي يجعل الأم تُسكت طفلها بجهاز، والمعلم يشرح أمام وجوه منطفئة، والموظف يفضّل التمرير على الحوار، إن لم نكن جميعًا وقعنا في فخّ “الوجود الدائم بلا حضور حقيقي”؟


النجاة من هذا التيه لا تبدأ بإلغاء الحسابات، بل بإعادة اكتشاف المعنى. أن نسأل أنفسنا: لماذا أستخدم هذه المنصّة؟ ماذا أبحث عنه؟ هل هذه الشاشة تفتحني على العالم… أم تُغلقني على نفسي؟ أن نعيد ضبط علاقتنا بالأدوات، ونعيد بناء علاقتنا بالذات والناس والمكان. أن تعود الحوارات الواقعية لتحلّ محل الرسائل المقتضبة، أن تعود المكتبات لتنافس الشاشات، وأن تعود العلاقة بين المواطن والحكومة قائمة على الرعاية لا التوجيه فقط.

في النهاية، نحن لا نُسجن داخل أربعة جدران، بل أحيانًا داخل أربعة إنشات مضيئة. وإن كانت الشركات تصمم خوارزميات للإدمان، فعلى الحكومات أن تصمم سياسات للشفاء. وعلى الأفراد أن يختاروا: إما أن نكون حضورًا في الحياة، أو أن نبقى متصلين دون أثر، نراقب الحياة تمر… من خلف الشاشة.




تعليقات

المشاركات الشائعة